مسك الرجال
في رثاء والدي، غفر الله له
تلبَّسَ بي جمرُ الفراقِ عَشيقا
وأضرمني يومَ الوداعِ حَريقا
وأوقدَ أعضائي بنارِ فجيعتي
وفكَّ لهيبي في العروقِ طَليقا
فللهِ (أُذني) حينَ جرَّعها اللظى
بهِ (نبأٌ) يطوي السماءَ حَقيقا
فلم يَبقَ في وهمي من الشكِّ شَعرةٌ
وقد جاءَ يسعى حاسرًا وحَليقا
وللهِ (عيني) إذ رأتهُ جَنازَةً
وقد كانَ حُلمي أن تراهُ مُفيقا
فَصَبَّت حميمًا، فوقَ خديَّ نفحُهُ
وأذكت جحيمًا في الفؤادِ سَحيقا
وللهِ (صدري) يومَ طَمَّ رِحابَهُ
دُخَانُ الأسى حتى تحَزَّقَ ضِيقا
وحارت بـ(حُلقومي) صواهلُ عَبرةٍ
تَرنَّحَ (صَبري) تحتَهنَّ خَنيقا
وَنَـــفَّـــرَ أنفاسي من الغَمِّ صارخٌ
فطارت زَفيرًا مُوقدًا وشَهيقا
وكفَّت (لساني) عُجمَةُ الفقدِ فانزوى
وَعَهدي بهِ قَبلَ الفِراقِ ذَليقا
وللهِ (قبرٌ) في (المحالةِ) ظافرٌ
دفنتُ بهِ (مِسكَ الرِّجالِ) عَتيقا
دفنتُ بجوفِ اللَّحدِ منِّي ثلاثةً:
أبًا، وأخًا ذا مِرَّةٍ، وصَديقا
دفنتُ بهِ من صفوةِ الأزدِ سيِّدًا
طويلًا، عريضًا، شاهقُا، وعَميقا
بهِ وهبَ اللهُ الفضائلَ سُؤلَها
ومَدَّ لها حبلَ الرجاءِ وَثيقا
ثمانينَ حولًا يُطعمُ المجدَ نفسَهُ
ليطلقَهُ غضَّ الشبابِ أَنيقا
ثمانينَ حولًا يُوردُ العِزَّ قلبَهُ
ليمشُقَهُ عذبَ القوامِ رَشيقا
فما ماتَ حتَّى خلَّفَتهُ عُزُومُهُ
على النَّعشِ جِسمًا ذاويًا ودَقيقا
(أبي) بكَ جاءتني من الموتِ لَطمَةٌ
غَدوتُ بها في الفاقدينَ عَريقا
وصيَّرَ (قلبي) قِبلةَ الهمِّ والجوى
وعبَّدني للمُوجعاتِ طَريقا
ورَشَّ على (وجهي) من الحزنِ لفحةً
وَجَرَّعني باقي الهمومِ رَحِيقا
وعلَّمني أنَّ الفؤادَ إذا بكى
غدا كلُّ عُضوٍ في جواهُ غَريقا
وواللهِ ما أبكي لفقدكَ ساخطًا
فما انفكَّ دمعُ الساخطينَ مَحِيقا
ولكنَّني أبكي بقلبِ مُتَيَّمٍ
دَهتهُ بكَ الدُّنيا، وكانَ رقيقا
فأسبلَ دمعَ العاشقينَ صبابةً
وأسرجَ صبرَ الحامدينَ رَفِيقا
(أبي) إن تكن تحتَ التُّرابِ مجذَّرًا
فإنكَ بي فوقَ السحابِ سَميقا
وإن كانت الأمجادُ تبكيكَ واحدًا
فإنَّك قد أورثتهُنَّ فَريقا
رحلتَ ويُمناكَ الكريمةُ لم تَزَل
بها خمسُ آياتٍ يَفِضنَ بَريقا
فطاول بهم مَن شئتَ، ما شئتَ، شامخًا
كما كنتَ، سيفًا بالشموخِ فَتيقا