غرام المخلصين

ألقيت أمام الأمير سلطان بن عبد العزيز، رحمه الله، في ساحة الاحتفالات أمام الصالة الملكية في الخالدية بأبها، وكان هذا الحفل آخر حفل حضره قبل وفاته، رحمه الله، وقد تزامن مع احتفاء منطقة عسير بأميرها الجديد الأمير فيصل بن خالد، وتوديعها لأميرها السابق الأمير خالد الفيصل، بعد 37 عامًا من إمارته لها، إذ عيِّن أميرا لمنطقة مكة المكرمة، بعد وفاة أميرها الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، رحمه الله

كطهرِكَ: أبها قلبُها فيكَ يُبحرُ

كجودِكَ: أبها حبُّها لكَ يُمطرُ

كوجهِكَ: أبها فجرُها بكَ مشرقٌ

كذكرِكَ: أبها روضُها منكَ يُزهرُ

كعطفِكَ: أبها كالنسائمِ عذبةٌ

كروحِكِ: أبها صفُوها لا يُكدَّرُ

كعزمِكَ: أبها لا تشيخُ جبالُها

كعمرِكَ: أبها في رضا اللهِ تَكـبرُ

كعزِّكَ: أبها للعلا مشمخرَّةٌ

كأمرِكَ: أبها حدُّها ليس يُكسرُ

ولو لم تكن أبها كما قلتُ سيدي

لما نالها منكَ الغرامُ المعمِّرُ

بُنَيِّتُكَ الحسناءُ، إن شئتَ أسبلت

حدائقَ حسنٍ في ودادِكَ تُثمرُ

وروضتُك الغناءُ، إن شئتَ وقَّعت

لحونًا على أنغامِ حبِّكَ تسهرُ

وقلعتُك الشماءُ، إن شئتَ أنجبت

جبالًا على أكتافِها الرعدُ يزأرُ

وصخرتُك الصماءُ، إن شئتَ لم يزل

على متنِها موجُ الردى يتكسرُ

وحُجَّتُك الغراءُ، إن شئتَ أطلقت

لسانًا بهِ السحرُ الأصيلُ المحـبَّرُ

فمرها بما تهوى تغصَّ شعابُها

بإنسٍ على آثارِها الجنُّ تُحشرُ

تجب والرجالُ الغرُّ خلفَكَ أُمَّةٌ

تجب والجبالُ الشمُّ حولكَ عسكرُ

ومرها كما تهوى يلبِّ ولاؤُها

فإنكَ (يا سلطانُ) تنـهى وتأمرُ

أناديكَ باسمٍ أستلذُّ بذكرِهِ

ويزكو بثغري منهُ عُودٌ وعنـبرُ

غـنيٌّ عن الألقابِ (سلطانُ) باسمِهِ

زكيٌّ بهِ ألقابُهُ تتعطَّرُ

فكيفَ إذا قيلَ (ابنُ عبدِالعزيزِ) هل

يساميه رسمٌ أو يساويه مِنـبرُ!

رآك فـتىً (عبدُ العزيزِ) بقلبِهِ

فلاحَ لهُ منكَ الضياءُ المبشِّرُ

رأى غرةً كالبدرِ يسبحُ خلفَها

ككوكبةِ الأملاكِ طُهرٌ معطَّرُ

رأى همةً كالأفقِ تبتلعُ المدى

وتستشرفُ الآتي البعيدَ وتعـبرُ

رأى كلَّ ما ترجوه آمالُ والدٍ

بوجهِ ابنِهِ، والله أعلى وأخبرُ

فقالَ لمن في عرشِهِ قولَ مؤمنٍ

تقيٍّ بنورِ الله ذي الطولِ يبصرُ

“بُـنَيَّ بدا لي في مباهجِ وجهِهِ

مخايلُ عزٍّ من ضحى الشمسِ أظهرُ

صبيًّا سيؤتى حكمةً يعتلي بها

عوالي متونِ المجدِ والغصنُ أخضرُ

وجدتُّ لإكسيرِ العُلا في دمائِهِ

شذًا يملأُ الأرجاءَ فألًا ويغمرُ “

تفاءلَ والرحمنُ يسمعُ قولَهُ

ورجَّى وأبوابُ السمواتِ معـبرُ

وراح يناجي فيكَ همساتِ قلبِهِ

ويدعو دعاءَ الصادقينَ ويذكرُ

فكنتَ كما قالَ الإمامُ فِراسةً

كأنَّ الذي قالَ القضاءُ المقدَّرُ

فليتَ نزيلَ العودِ يُبصرُ ظنَّهُ

يقينًا بهِ بحرُ المروءاتِ يزخرُ

ودعوتَه عندَ المجيبِ مجابةً

تمامًا على ما يشتهي ويقدِّرُ

ليعلمَ أنَّ اللهَ صدَّقَ ظنَّهُ

وآتاه سهمًا نافذًا لا يؤخَّرُ

فيا هبةَ الرحمنِ يا لطفَ دعوةٍ

كتسبيحةِ الأسحارِ لا تتعـثَّرُ

ملأتَ فمَ التاريخِ عزًّا ورفعةً

وأتعبتَ يُمـنى المجدِ وهي تُسَطِّرُ

فرِفقًا بجسمٍ لم يزل ظالـمًا لهُ

طموحُ فؤادٍ مؤمنٍ ليس يقهرُ

تعلَّى على العرشِ السُعوديِّ ستةٌ

بهم يَشرُفُ الذكرُ الجميلُ ويفخرُ

فكنتَ لهم رِدئًا كـ(هارونَ) صادقًا

وزيرًا به (موسى) يُعانُ ويُنصرُ

أمينٌ بهِ عهدُ الملوكِ مؤمَّنٌ

وركنٌ بهِ عرشُ الجدودِ مجذَّرُ

وسلُّوكَ سيفًا واحدًا بعدَ واحدٍ

فكنت نِعِمَّا الـمُنتضى حينَ يُشهرُ

وأنتَ لـ (عبدِاللهِ) يمـنى منيعةٌ

تُناطُ بها الشهبُ العظامُ فتصغرُ

فما زلتَ منصورًا معانًا مسدَّدًا

وما زالَ من عاداكَ يَخزى ويُدحرُ

وما زلتَ تعلو حاسديكَ، وتمتطي

معاطسَهم في كلِّ فَجٍّ وتَظهرُ

وما زالَ أهلُ الحقدِ موتى بغيظِهم

وما زلتَ عنهم أنت تعفو وتغفرُ

تجازي قلوبَ الحاسديكَ؛ ترفُّعًا

بعفوِكَ إنَّ العفوَ أنكى وأنكرُ

وذو الحلمِ إن ينطق ففي النطقِ حكمةٌ

وذو الحلمِ إن يصمت ففي الصمتِ مُنذرُ

ولو أنَّهم أهلٌ لسيفِكَ حزَّهم

ولكنَّهم عن سلِّ سيفِكَ أحقرُ

خُلِقتَ كبـيرًا واسعَ الحلمِ، فطرةٌ

من اللهِ إذ سوَّاك لا تتغـيَّرُ

فتبًّا لشعرٍ ثم تبًّا لشاعرٍ

يرى ما أرى منكم ولا يتفجَّرُ

ينابيعَ شعرٍ صافياتٍ زكيَّةً

بها الماءُ يُروى والعناقيدُ تَسكرُ

رأيتُك فاستنشقتُ كلَّ فضيلةٍ

تُسَرُّ بها نفسُ القوافي وتُحـبَرُ

فحـبَّرتُ من شعري للقياكَ باقةً

بها عُودةٌ نَدٌّ وبُنٌّ مزعفرُ

قديمَ الندى: لم تنس أبها أياديًا

هَـمَى من غواديها العطاءُ المبكِّرُ

مقيمَ الندى: ما زلتَ تعطي ولم نزل

بشكركَ من أبها نُسرُّ ونَجهَرُ

شكورَ وفاءٍ لا جزاءٍ وعلَّنا

نُعَدُّ بهِ في الشاكرين ونُذكرُ

فمذ أن غفت أبها بأحضانِ غيمِها

وأحلامُها من جودِ كفَّيك تُعـبَرُ

وإنَّ الوفا كالجودِ صعبٌ وإنَّما

تزيدُ العطايا لذَّةً حينَ تُشكَرُ

على يدِكم أبها تمثَّلَ مجدُها

سويًّا، وميلادُ الأساطيرِ يعسرُ

وشبَّت عن الأطواقِ أمَّا جمالُها

فظـبيٌ وأما روحُها فغضنفرُ

ربيبةُ عزٍّ عمرُها عمرُ خالدٍ

وما قبلَهُ كالسهو، والسهوُ يجـبرُ

بهِ جـبرَ الرحمنُ عـثراتِ عمرِها

ولُـمَّ بهِ شملُ الطموحِ المبعـثرُ

رأت فعلَه أمُّ القرى فتشوَّفت

إليهِ وقد مات الحبيبُ المصدَّرُ

وناجت بما في نفسِها من صبابةٍ

بنيَّتَها (أبها)، وللأمِّ مَخـبَرُ

فما خيَّبت أبها الظنونَ وآثرت

على نفسِها، والأمُّ بالخيرِ تؤثرُ

فكافأها الـبرُّ الرحيمُ بفيصلٍ

قضى اللهُ أنَّ الـبِرَّ بالبِرِّ يُؤجرُ

أمـيرٌ مسافاتُ الطموحِ بعزمِهِ

ستُطوى، وأسرارُ الكراماتِ تنشرُ

ولِم لا! وتقوى اللهِ تملأُ قلبَهُ

يقينًا إذا رامَ المحالاتِ يظفرُ

سعى نحوَها كالشمسِ غلَّابةِ الدُّجى

فجلَّلها الفجرُ الجديدُ المشمِّرُ

هنيئًا لأبهَا لم يزل رُّبها بها

حفيًّا رآها أمسِ تعطي وتصبرُ

فعوَّضها عن خالدٍ بابن خالدٍ

كأنَّهما منها عليٌّ وجعفرُ

فدُم لهما يا قبلةَ المجدِ أسوةً

بها كلُّ قلبٍ طامحٍ يتدبَّرُ

وخذ عهدَ أبها من يمينِ ابنِ خالدٍ

على الحبِّ ما دامت عرى الشمسِ تُسفِرُ

بها من أسودِ اللهِ للهِ جحفلٌ

كبـيرٌ بحولِ اللهِ، واللهُ أكبرُ

مقيمٌ على عهدِ الولاءِ ببيعةٍ

تزولُ الرواسي قبلَها وتُسَجَّرُ

تُطاعُ ملوكُ الأرضِ خوفًا ورهبةً

وطاعتُكم: دينٌ وحبٌّ وجوهرُ

وشتانَ ما بينَ المطيعِ عقيدةً

وبينَ مطيعٍ بالعصا وهو مجـبرُ

فإنَّك علمتَ الحياةَ وأهلَها

بأنَّ يدَ الإحسانِ أعلى وأطهرُ

وعلَّمتَ أهلَ العشقِ يا عاشقَ العُلا

بأنَّ غرامَ المخلصينَ يُفسَّرُ

1428هـ، أبها