معادلة الشقاء

ألقيت أمام الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير، في حفل افتتاح ملتقى الشباب الخليجي، الذي أقامته الندوة العالمية للشباب الإسلامي في متنزه الفرعاء في ضواحي أبها.

قفا نبتهج في سفحِ أبها ونرفلُ

فأبها لنا فيها حبيبٌ ومـنزلُ

وقفتُ بأبها يا امرأَ القيسِ ضاحكًا

وأنتَ على الـمِقراة تبكي وتُعوِلُ

ولو أبصرت عيناكَ أبها وحسنَها

لما هاجَ ذكراكَ الدخولُ وحوملُ

ولو كنتَ مثلي يا امرأَ القيسِ عاشقًا

أمـيرَ العلا، العالي الأغرُّ المحجَّلُ

لما كنتَ يومَ البينِ ناقفَ حنظلٍ

لدى سَمُراتِ الحيِّ يومَ تحمَّلوا

فشتانَ ما بيـني وبينكَ واقفًا

هُديتُ، وأنت الجاهليُّ المضلَّلُ

وقفتَ على سِقطِ اللوى حينَ أقفرت

وقد عبِثت فيها جَنوبٌ وشمألُ

ترى بعرَ الآرامِ في عرصاتِها

وقيعانِها كأنما هو فُلفُلُ

شفاؤُكَ فيها عـبرةٌ مُهَراقةٌ

بليلٍ كموجِ البحرِ يُرخى ويُسدلُ

وإنَّ شفائي يا امرأَ القيسِ وقفةٌ

أرى سيدي فيها فأزهو وأرفلُ

على سيدي مـنِّي السلامُ يزفُّه

فؤادي وفيه السلسبيلُ المسلسلُ

يسيلُ هواكم في فؤادي فأرتوي

ويهـتزُّ في قلـبي من الشعرِ سنبلُ

سنابلُ شعرٍ في مروجٍ وقفتُها

عليكَ وأنت القابلُ المتفضِّلُ

أبلُّ صدى عيـنيَّ من وجهِ سيدي

ويشربُ قلـبي من سناه ويأكلُ

أراه وهالاتُ الجلالِ تحوطُهُ

فتغضي عيونُ الناظريهِ وتُسفِلُ

وأخشى على هذا الجلالِ الذي أرى

لسيماهُ من حسَّادِهِ فأبسملُ

أحبُّكَ يا ابنَ النورِ حبَّكَ للعلا

وقلـبي مُعِمٌّ في هواكَ ومخولُ

أحبُّكَ والحرمانُ والبعدُ فيهما

محكُّ الهوى والامتحانُ المطوَّلُ

ألفتُهما لـمَّا رأيتكَ سيدي

تفلسفُ أحوالَ الهوى وتعلِّلُ

تؤَلِّفُ أضدادَ الغرامِ قصيدةً

وعن كنهِهِ الأخفى تجيبُ وتسألُ

سألتَ قديمَ الغوصِ في لجَّةِ الهوى

وفتواكَ في طيِّ السؤالِ تجلجلُ

تعلَّمتُ من أستاذِ عمرِك فطنةً

بها أعصرُ الحرمانَ شهدًا وأنهلُ&

بها أجعلُ البعدَ القصيَّ سياحةً

بفكرِكَ، في آفاقِهِ أتجوَّلُ

بعمركَ، أجـني منهُ كلَّ فضيلةٍ

بشعركَ، في أفيائِهِ أتنقَّلُ

فلا عجبٌ في أن يحبَّكَ غانمٌ

وحـبِّي مع الحرمانِ أنقى وأمثلُ

ولا عجبٌ في أن يحبَّكَ من دنا

وحـبِّي مع بُعدي أجلُّ وأكملُ

شفيعي بلقياكم ثباتي على الهوى

على عهدِ حُبٍّ راسخٍ لا يُحلحلُ

فما التذَّ بالحرمانِ إلا متيَّمٌ

وقاوى النوى إلا الغرامُ المؤصَّلُ

فخذ قبلـتي وأذن لها يا أميرَها

تحطُّ على الكتفِ الذي لا يقبَّلُ

أمـيري (وماذا لو)&& خصصتَ بهذِهِ

محبَّك (ماذا لو) أذنتَ، ولو ولو

أذنتَ لأوقدتَّ الفصاحةَ في فـمي

وغرَّد في ثغري بشكركَ بلبلُ

أنيخُ القوافي عندَ بابِ ابنِ فيصلٍ

وأَثـني زمامَ الشارداتِ وأعقلُ

وأُرضي القوافي الراقصاتِ بمدحِهِ

وأسبغُ أطرافَ الرِّحالِ وأسبلُ

إلى سيِّدٍ تكسوهُ بالعزِّ نفسُهُ

وهذا الطرازُ الفيصليُّ المبجَّلُ

يَمِـيزُ خيارَ الشعرِ من ترَّهاتِهِ

ويعقدُ أطرافَ القوافي ويفتلُ

ويجمعُ أهدابَ الرؤى في يمينِهِ

فؤادٌ بتوفيقِ الإلهِ مكلَّلُ

فراسةُ روحٍ لا تضلُّ، بمثلِها

توسَّمَ فيكم شامخَ العزِّ فيصلُ

وألبسنا عزًّا فآثرنا بكم

فكنتم هنا في شامخِ الأرضِ أوَّلُ

على فيصلٍ من كلِّ ألطافِ ربِّهِ

ومن نفحاتِ الخُلد غيثٌ مجلَّلُ

إمامٌ بنورِ اللهِ يبصرُ قلبُه

ويستشرفُ المستقبلَ الصعبَ من عَلُ

تجلَّى لأبها قبلَ خمسينَ حِجَّةً

وأطرقَ في مأساتِها يتأمَّلُ

وراح يناجي نفسَهُ في مظفَّرٍ

لها، واستخارَ اللهَ فيما يؤمِّلُ

فكنتَ لها لما تغشَّتكَ همةٌ

تدكُّ عراقيلَ المدى وتزلزلُ

تنقَّاك من بينِ السيوفِ بنفسِهِ

أبٌ ما تربَّى في حماهُ مُدلَّلُ

نشأتَ على حملِ المهمَّاتِ يافعًا

تُصاغُ على عـيني أبيكَ وتُصقَلُ

وأدركتَ نبعَ الرشدِ في زهرةِ الصبا

لأنَّكَ من أيامِ عمرِكَ أطولُ

قبلتَ عسيرَ الأرضِ إذ كنتَ مولعًا

بكلِّ عسيرٍ جامحٍ لا يُذلَّلُ

عصتها كؤوداتُ المسالكِ فانقضى

بها العمرُ في أخفافِها تتعرقلُ

وأقدمتَ فاستلقى ومدَّ جناحَهُ

لأقدامِها دربُ النجاحِ المذلَّلُ

وقفتَ بها في أوَّلِ الدَّربِ صامتًا

وطرفُكَ في أفقِ الطموحاتِ مُرسَلُ

وأطعمتَها أيَّامَ عمرِكَ راضيًا

وذاكَ لَعَمرُ اللهِ ما ليس يُبذلُ

فنوَّلتَها ما لا ينالُ من العُلا

ومن لذَّةِ الإنجازِ ما ليسَ يُعقلُ

على جسمِهِ جارت طموحاتُ نفسِهِ

جسورُ السجايا الواثقُ المتوكِّلُ

ثلاثونَ عامًا، بل تزيدُ تتابعت

ونبضُ ثوانيها بعزمِكَ يُغزلُ

لتكسوَ أبها حلَّةً كلَّ ليلةٍ

تطلُّ على عشَّاقِها وهي أجملُ

فليتَ شهيدًا في ثرى العودِ قـبرُهُ

لرؤياكَ في أبها يعودُ ويُقبِلُ

ليعلمَ أنَّ الشمسَ أوفت بوعدِها

فأشرقَ من أبها الرجاءُ المؤمَّلُ

وأنَّ فروعَ الليلِ في كلِّ عُقدةٍ

بأغصانِها عنقودُ فجرٍ مدلدلُ

وأنَّ قُرًى بالأمسِ شاهدَها هنا

تُلَفُّ بأكفانِ الأسى وتسربلُ

غدت لوزةَ الدنيا وتفاحةَ الندى

ورمَّانةَ الحُبِّ الذي لا يبدَّلُ

بها اجتمعَ البيتُ الخليجيُّ كلُّه

وأنتَ بهِ أهفى وأحفى وأحفلُ

دعاةً إلى دينِ السَّلامِ، إمامُهم

محمَّدُ والذكرُ الحكيمُ المـنزَّلُ

وقد برئوا للهِ من كلِّ فتنةٍ

جناها عليهم خارجيٌّ مغفَّلُ

بـبرجينِ شاخا في نيويوركَ هُدِّما

بتدبيرٍ مخذولٍ من الغيِّ ينهلُ

تلظَّت على الأفغانِ نارٌ محيقةٌ

وأخرى على قلبِ العراقينِ تُشعلُ

بـبرجينِ أهدى الدولتينِ إلى الردى

خبيثانِ للأعداءِ أعطى وأجزلُ

فُعالةُ مدفونًا بأمعاءِ حفرةٍ

وفعَّالُ في أحشاءِ أخرى يغربلُ

بدا منهما للنَّاس تاجٌ وعِمَّةٌ

وهل تنفعُ الشاراتُ والعقلُ أحولُ

معادلةٌ يشقى اللبيبُ بمثلِها

ويضحكُ منها كلُّ شيء ويَهزَلُ

وأعجبُ منها أنها هيَ لم تزل

تُجدَّدُ باسمِ الدينِ فينا وتُجدلُ

أتعدلُ جنديينِ في الأسرِ قُيِّدا

بلبنانَ في قيدِ الشقاءِ يكبَّلُ

بألفِ قتيلٍ بالليالي وما بنت

بأطفالِ قانا بالبراءةِ تقتلُ&&&

معادلةٌ أخرى شقينا بجورِها

ويعجبُ منها كلُّ شيءٍ ويخجلُ

ذرائعُ يهديها الشقيُّ لخصمِهِ

ليطفرَ منها حقدُهُ المتغلغلُ

وترضى جماهيرُ الغثاءِ بفعلِهِ

وتصرخُ يومًا واحدًا ثم تضؤلُ

وتبكي وقوفًا كامرئِ القيسِ عندَها

وتشجبُ أفعالَ الغزاةِ وترحلُ

ألا تستحي من قلَّةِ العقلِ أمَّةٌ

لها في ذرى التاريخ مجدٌ مؤثَّلُ

أباها لنا اللهُ العليُّ فإنَّنا

على اللهِ من هذا أجلُّ وأنبلُ

بكم يا سعودَ المستجيرِ وأمنَهُ

ويا منهلَ الفضلِ الذي لا يوحَّلُ

نضمِّدُ في صمتٍ جراحَ شقيقِنا

ونعطي بلا مَنٍّ ونسعى ونَعملُ

ويشهدُ تاريخُ الرجالِ بأنَّنا

ملوكٌ مـتى شئنا نقولُ ونفعلُ

1427هـ، مكة المكرمة

& الإشارة هنا وفي البيتين قبله إلى قصيدة الأمير خالد الفيصل التي بعث بها إلى أخيه عبد الله الفيصل الذي كان يوقع لنفسه بـ(المحروم): "يا قديمَ الغوصِ في بحرِ الهوى" وكان يخاطبه في أشعاره بـ (يا أستاذ عمري). && كتب الأمير خالد الفيصل آنذاك مقالة عنوانها (وماذا لو؟) وحظيت باهتمام واسع. &&& إشارة إلى حرب تموز 2006م، التي بدأت بأسر حزب الله الشيعي جنديين إسرائيليين في عملية سماها حسن نصر الله (الوعد الصادق)، فشنت إسرائيل على إثرها حربًا على لبنان استمرت 34 يومًا، كانت نتيجتها نزوح نحو مليون لبناني، وتدمير نحو 15 ألف منزل، وقتل نحو ألف مدني، وأكثر من 5 آلاف جريح. وفي قانا قُصف مبنى فيه عدد من النساء والأطفال، كان ضحية القصف 55 قتيلا بينهم 27 طفلا، وقد عرفت هذه الحادثة إعلاميًّا بـ(مجزرة قانا الثانية).