عزف راعية الشياه

استيقظت من النوم وكتبتها في أوراق، وعدت إلى النوم ثانية دون وعي، وكنت قبل نومي قد قرأت كتاب (أبو القاسم الشابي في شعره) لجرجس ناصيف (دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م) كاملا، وتأثرت بما فيه كثيرا

أسئمتَ عيشك َفي شقىً وعذابِ؟

أوجدتَّهُ بكَ ضيِّقَ التِّلبابِ؟

ونظرتَ فيه فلم تجد في طيِّهِ

غـيرَ الأسى وتكاثرِ الأوصابِ

وَلِمَ السَّآمةُ! لم تزل غضًّا وفي

عينيكَ أحلامٌ وفيضُ شبابِ؟

في صدرِكَ الأملُ المحدِّقُ لم يَزَل

في الأفقِ يرقبُ رحمةَ الوهَّابِ

مـتردِّدٌ أنا في شفاهِ كآبتي

(س) وبينَ يديَّ ألفُ جوابِ

إنِّي أغصُّ بذا السؤالِ ولم أجد

أملًا يَحُلُّ أَزِرَّةَ الجِلبابِ

ساءلتُ ما حولي: أحقًّا أنَّـنِي

أملُ الشقاءِ وغايةُ الأنصابِ؟

ساءلتُهم دهرًا فلم أسمع لهم

غـيرَ السُّكوتِ مجاوبًا لخطابي

يا شقوتي! هل أنتِ غـيرُ تأمُّلي

وتفهُّـمي للكونِ واستغرابي؟

كلٌّ رأى الدُّنيا فأبصرَ وجهَهَا

يحكي خواطرَ قلبِهِ ويُحَابي

فـيراهُ ذو الآثامِ فرجَ بغيًّةٍ

ويراهُ ذو التَّقوى طريقَ ذهابِ

ولقد أدمتُ تَأمُّلي فرأيتُها

عينَ اليقينِ ودونَ أيِّ حجابِ

فرأيتُها كفنًا ولحًدا ضيِّقًا

وسؤالَ قـبرٍ وافـتراشَ ترابِ

ما أنتِ يا دنيا؟! حلالُكِ طَيِّبٌ

لو أنَّه لم يُختتم بحسابِ

ما أنتِ يا دنيا؟! حرامُكِ ذِلَّةٌ

تبقى ويتلوها أليمُ عذابِ

كفَّانِ قد بسطتهما الدُّنيا لنا

ومن الغرورِ ازيَّنت بخضابِ

وغدا يروِّجُ مكرَهُ بلسانِها

إبليسُها في منطقٍ جذَّابِ

وإذا أصختَ سمعتَ في خلجاتِها

ذكرى حسابٍ محكمٍ وعقابِ

يا…، واسمُكِ الدُّنيا، عجبتُ لمن أتى

يسعى إليكِ بشوقِهِ الغلَّابِ

ماذا رأى؟ حـتى أتاك بذلَّةِ الـ

ــعشاقِ عند محاسنِ الأحبابِ

أمَّا أنا فلقد رايتُكِ خِدعةً

سـحِرَّيةً نُصِبت عـلى الأبوابِ

أولستِ عاصفةً يردِّدُ ثغرُهَا

لحنَ النسيمِ بنيَّةِ الإرهابِ؟

أولم تحوكي ثوبَ أحزاني الذي

فـي صنعهِ مَزَّقتِ كلَّ ثيابي؟

وجعلتِ ظاهرَهُ بياضَ حمامةٍ

تشدو وباطنَه سوادَ غرابِ

خيرتِـني بينَ العراءِ وبينَه

فزها به عيدي ويومُ مصابي

ولقد شربتُ بكأسِها من علقمٍ

مرٍّ فأفسدَ مأكلي وشرابي

عجبًا لأحلامِ الطُّفولةِ كيف قد

خُدِعت بذاكَ المبسمِ الكذَّابِ !

تبًّا لأحلامِ الطُّفولةِ مُزِّقت

فـي مهدِها بأسنَّةٍ وحِرابِ !

كم كنتُ أبنيها وأرشفُ عندها

طعمَ الطُّموحِ ولذَّةَ الإعجابِ

بسذاجةِ العهدِ القديمِ من الصِّبا

قلتُ الحياةُ تملُّكُ الألعابِ

أو حفرُ بـئرٍ في الـترابِ، ودمُّها

وتعبُّثٌ بالوردِ والأعشابِ

أو كسرةُ الخـبزِ الصغيرةُ من يدٍ

منهوكةٍ وحنانُ قلبٍ صابي

أرعـى الشياهَ وليس لي هَمٌّ سوى

عزفِ الرُّعاةِ وملتقى الأصحابِ

وأراقبُ الأفقَ البعيدَ لكي أرى

كفَّ الغروبِ مؤذِّنًا بإيابيِ

ويحلُّ في الأرضِ الظَّلامُ بصمتِهِ

وعناءُ يومي حَلَّ في أهدابي

فأنامُ فـي صمتِ الحياةِ وأبتـني

حُلُمَ الغدِ الآتي بدربِ ركابي

حـتى إذا اشتدتَّ بنا أعوادُنا

كان الصِّبا حقًّا بريقَ سرابِ

وبسطتِ يا دنيا جناحَي شِقوةٍ :

هَمَّ المعيشةِ والهوى المترابي

فغدا الفؤادُ أسيرَ حبسَي ذِلَّةٍ :

إقبالُ كاذبةٍ وصَدِّ كعابِ

وعن البساطةِ ذي الحياةُ تباعدت

فشكا الجميعُ تقطُّعَ الأسبابِ

يأتي عـلى متعِ الحياةِ ثراؤُها

ولها مع الإقلالِ لينُ جنابِ

يا عزفَ راعيةِ الشِّياهِ أعد لنا

طعمَ الحياةِ بلحنِكَ المنسابِ

فلقد دهتـني في غيابكَ لُـجَّةٌ

لا عزفَ فيها غـيرُ عزفِ الغابِ

تتقاذفُ الأمواجُ فيها زورقي

ما بينَ فكَّي هادرٍ وعُبابِ

فصرختُ: يا دنيا العذابِ توقفي

وليُلقِـني موتي بكفِّ مآبي!

فسمعتُ هاجسَها يقولُ بِرقَّةٍ

فيها أنينُ ملامةٍ وعِتابِ:

قضِّ الحياةَ كما أتتكَ ولا تسل

فيها أناسٌ أم قطيعُ ذئابِ؟

وإذا أردتَّ سعادةً أبديَّةً

تجلو بها حزني مدى الأحقابِ

فاجعل لدينِ اللهِ منكَ منابرًا

وأطل وقوفَكَ في حـمى المحرابِ

واجعل جليسكَ مصـحفًا تحيا مع

آياتِهِ وارشف رحيقَ كتابِ

واقرأ حياةَ الصالحينَ ترى الهدى

وفضائلَ الأخلاقِ والآدابِ

درسٌ من الدنيا يسطِّرُ قولَها

عن نفسِها: إنِّي لدارُ خرابِ

1418هـ، النماص