ريحانة الكون
(تأملاتٌ في لحظةِ المولدِ الشريفِ في شِعب بني هاشم)
من أنتَ؟ علَّقتَ في أهدابي القمرا
من أنت؟ أدنيت مني الشمسَ كيف أرى
من أنتَ؟ فجَّرتَ ينبوعَ الضِّيا، وقنا
ديلَ السَّنا، ومصابيحَ الهدى دُررا
من أنتَ؟ مزَّقتَ عن وجهِ الحياةِ بها
سربالَ ليلٍ عليها جَنَّ واعتكرا
من أنتَ؟ هذي قصورُ الشامِ شامخةٌ
زها عليها ضياءٌ منكَ وازدهرا
يا مشرقَ النورِ يا نبعَ السنا اشتعلت
بكَ الكواكبُ دُرًّا شَعَّ فانتثرا
ألا ترى الكونَ نحوَ الأرضِ ملتفتًا
ومدَّ عينيهِ نحو الشِّعبِ فانبهرا
من أنتَ؟ إني أرى البيداءَ زاحفةً
نحوي تقصُّ إلى ينبوعِكَ الأثرا
إلى رحابكَ تَطوي جِلدَها شغفًا
لتُوردَ الوبرَ الظمآنَ، والمدرا
من أنتَ؟ ناجى بكَ العصفورُ صاحبَهُ
فأطربَ الغصنَ، والأوراقَ، والثَّمرا
ريحانةَ الكونِ مسكَ الأرضِ زهرتَها
عطرَ الوجودِ، شذا الرَّوح ِالذي انهمرا
أندى العطورِ، وأزكاها، وأطيبُها
تشتمُّها منكَ آفاقُ المدى، سحَرا
بذا وذاك تناجي النفسَ آمنةٌ
حـيرى، تقلِّبُ في مولودِها الفِكرا
جاءت بهِ جدَّه تسعى، مبشِّرةً
تُقِلُّ في ساعدَيها الفجرَ مختدرا
رآهُ شيخُ قريشٍ، ثم أتبعَهُ
أخرى، يرجِّعُ في مولودِها النظرا
يُمَتِّعُ الطَّرفَ في روضِ الجمالِ، وبسـ
ــتانِ الجلالِ، وفي فردوسِه انغمرا
تدفَّقَ الحسنُ في عينيهِ، في دمهِ
في شيبهِ، وسقى من وجهِهِ البصرا
واشتمَّ أعتقَ مِسكٍ من لفافتِهِ
واشتمَّ أخرى له زادًا، ومدَّخرا
وراحَ يسعى به شيخُ الأباطحِ في
زهوٍ، ويـمَّمَ شطرَ البيتِ مبتدرا
بُشرى بني هاشمٍ ميلادُ سيدِها
إنَّ السيادةَ في عينيهِ والظَّفرا
مُحَمَّدٌ أنتَ يا فخرَ المحامدِ في
شِفاهِ من نظمَ الألفاظَ أو نثرا
إني أرى مَلِكًا في حجرِ آمنةٍ
يُعَمِّمُ العزُّ في أكنافِهِ مضرا
بذا وذاك تناجيهِ فراستُه
وما درى أنَّهُ في حدسِهِ اقتصرا !
في حجرِ آمنةٍ، يا عَمُّ، لو علمت:
أجلُّ من خلقَ الرحمنُ حين ذَرَا
في حجرِ آمنةٍ، يا عَمُّ، لو علمت:
أزكى وأنقى وأعلى العالمين ذُرَا
لم يخلقِ اللهُ لا جِنًّا ولا مَلَكًا
ولا بشيرًا ، يدانيهِ ، ولا بشرا
في حجرِها مشرقُ (البُشرى) مباركةً
عنها تضاءلَ سترُ الليلِ، فانحسرا
في حجرِها الرحمةُ المهداةُ بازغةً
منها تلظى ظلامُ الجورِ، فانصهرا
في حجرِها النعمةُ المسداةُ سابغةً
من راحتيها استهلَّ الخـيرُ فانتشرا
في حجرها كلُّ طوبى كلُّ طيبةٍ
تُشَمُّ ، تُسمَعُ، تُستدنَى، تُذاقُ، تُرَى
رأت، وشمَّت، وذاقت من حدائقِهِ
سعدُ بن بكرٍ ، فحلَّ السعدُ وابتكرا
ما بينَ خلوتِهِ في حِجرِ آمنةٍ
وبينَ خلوتِهِ في الغارِ مُدَّكرا
تمَّ التمامُ لبدرِ المصطفى، فرأى
جبريلَ في الأفقِ الممتدِّ، منتظرا
لما دنا فتدلَّى نحوه اتَّصلت
معارجُ النورِ أَبراجًا، تكادُ تُرى
عن قابِ قوسينِ أو أدنى يلقِّنُهُ
بالحقِّ عن ربِهِ الآياتِ والسُّورا
في لحظةٍ من محطَّات الخلودِ مشى
هونًا على حَدِّها التاريخُ فانشطرا
سويعةٌ قسمت تاريخَ كوكبِنا
منها تفتَّقَ فَجرُ العِزِّ وانفطرا
وحيًا جَرَى في عروقِ الكونِ فامتلأت
عدلًا يقومُ منارُ الحقِّ حيثُ جرى
تدفَّقَ الحقُّ فاندكَّ الظلالُ بهِ
وذلَّ من زحفِهِ الشيطانُ فاندحرا
وقيصرٌ قصَّرت بالرومِ دولتُهُ
هوت، وكسرى هوى بالفرسِ وانكسرا
وحصحصَ الحقُّ لما أن هوى هُبَلٌ
وجدَّ فجرٌ، وولى عهدُ من كفرا
يا سيدَ الخلقِ حِدنا عنكَ، واكتسحت
صفوَ الزمانِ ذنوبُ النَّاس فانطمرا
وجدَّ ليلٌ ودارت للزمان يدٌ
فما كرهنا قضاءَ اللهِ إذ أمرا
فالرومُ كرَّت على الإسلامِ كرَّتها
وحقدُ فارس يذكي النارَ مستترا
حزبانِ جاءا ففجَّرنا خلالَهما
من الدماءِ الـتي يُشفى بها نهرا
ها هم محبوكَ (يا طه) أولاءِ إلى
أرضِ العراقِ الأشمِّ استنفروا سقرا
ها هم محبوكَ (يا طه) قد التحموا
صفَّا عـلى كرباتِ الدهرِ مصطبرا
ها هم محبوكَ في أحداقِها ثبتوا
وغـيرُهم ركبَ الظلماءَ فانجحرا
يا سيدَ الخلقِ بغدادُ الجهادِ رمت
في قلبِ أعدائِكَ الخذلانَ والخورا
صلَّى عليكَ الهلالُ الخصبُ حين رأى
جيشَ الصليبِ على أسوارِها انتحرا
أحبابُكم يا حبيبَ اللهِ قد منعوا
أرضًا إليها حبيبُ المتقينَ سرى
مرابطينَ بقلبِ القدسِ، ثابتةٌ
أقدامُهم، فسلِ الأطفالَ والحجرا
إنَّ النوايا الـتي ربيتَها اقتحمت
قنابلَ النوويِّ انقضَّ فانشطرا
فكلُّ ذرةِ إيمانٍ ندينُ بها
أقوى وأعـتى من الذريَّةِ الشررا
هم خصَّبوها، نعم، لكنَّها عقمت
عن الرجالِ أناثيهم، فلا ضررا
لا يخصبُ السيفُ إلا حينَ يوردُه
مظفرٌ من أسودِ اللهِ، منتصرا
يا سيدَ الخلقِ ها هم شانئوكَ بدَت
بغضاؤهم، لكَ بانَ البغضُ فانبترا
ماتوا من الغيظِ، مقهورينَ، لم يجدوا
يدًا إليكَ سوى أن يرسموا الصورا
ضاقوا بمنزلكَ الأسمى، بسيرتكَ الــ
أسنى، بجاهكَ جاهًا عطَّرَ السيرا
مليارُ قلبٍ بحبِّ المصطفى خفقت
فاندكَّ من خفقِها بنيانُ من سخرا
همُّوا بزلزلةِ الدنيا، ولم يجدوا
أمامَهم لا أبا بكرٍ ولا عمرا
فناصروكَ فُرادى بالذي وجدوا
ولا يُكَلَّفُ قلبٌ فوقَ ما اقتدرا
في موقفٍ رُزتَ أفعالَ الرجالِ بهِ
فبانَ من خذلَ الهادي ومن نصرا
فكن شفيعًا لهم في يومِ مبعثِهم
وهم فُرادى على الأمرِ الذي قُدرا
صلَّت عليكَ القوافي في ترنُّمها
وسلَّمت بسلامِ اللهِ منهمرا
ريحانةَ الكونِ: إنَّ الحبَّ يكتبني
شعرًا وينشدني خجلانَ معتذرا
إني أدحرجُ أشعاري على شفتي
خجلى تُنكِّس عنكم طرفَها خفرا
أمامَ جاهِكمُ الأعـلى يُقصِّر بي
قولي، ويرجعُ طرفُ الشِّعرِ منكسرا
فاقبلَ محبَّكَ في أعطافِ قافيةٍ
علَّقتُ باسمكَ في أهدابِها القمرا
1427هـ، مكة المكرمة