توحُّد

(حوارٌ شعريٌّ بينَ طفلٍ توحديٍّ وأبيه)
اتصل بي أستاذ فاضل اسمه محمد بن يحيى عسيري، يعمل معلمًا في أبها، وقال لي إنه أب لطفل توحدي، وسرد لي قصته المثيرة مع رحلة تثقيف عالية بأعراض التوحد وسبل التعامل معه، قام بها داخل السعودية وخارجها، بعد أن اكتشف أن ولده توحدي، وذكر لي أنه يطمح إلى القيام بحملة توعية واسعة في المجتمع بذلك، وأنه يريد أن يبدأها بعمل شعري منشد، وأنه كتب مطلعًا شعريًّا لم يستطع البناء عليه، وطلب مني أن أتعاون معه في ذلك، فكان هذا النص.

الأب:

أبـنيَّ لا تجزع وإن طالَ البلاء

أبـنيَّ لا تحزن فإنَّ اللهَ شاء&

سلِّم أمورَكَ للكريمِ فإنَّهُ

من لطفِهِ خلقَ الدواءَ لكلِّ داء

الطفل:

دعـني أبي، إنَّ “التوحَّدَ” لم يعُد

دائي؛ لقد أضحى أعزَّ اﻷصدقاء

قَدَرٌ بهِ عشقَت حياتي وحدَتي

أولستَ يا أبتاهُ تؤمنُ بالقضاء

الأب:

آمنتُ أنَّ اللهَ ليسَ لفضلِهِ

حدٌّ وليسَ لجودِ يمناهُ انتهاء

إنَّ الذي خلقَ التوحُّدَ نفسَهُ

خلقَ التآلفَ والتعاطفَ واللقاء

انظر هنا: هذا أنا، لكَ روضةٌ

الحبُّ تحتَ ظلالِها طينٌ وماء

وهناكَ أمُّكَ جنَّةٌ في خُلدِها

تسعى ملائكةُ الأمومةِ بالدعاء

أو ﻻ ترى بعيونِ أختِكَ لهفةً

لكَ كي تشاطرَها سويعاتِ الصفاء

الطفل:

عذرًا أبي: لا أعرفُ “الحبَّ” الذي

حدثتني عنهُ، ولا معـنى “الوفاء”

في معجـمي معنى “اﻷمومةِ” ميِّتٌ

ثاوٍ بمقـبرةِ “القطيعةِ” و”العداء”

وأجيدُ من لغـتي ثلاثةَ أحرفٍ

“صاد” تجرُّ بداخلي “ميمًا” و “تاء”

أنا “مُتُّ” في “صمتي”، لساني عقدةٌ

في شَعرَةٍ تمتدُّ بيـني و”الجفاء”

فاقرأ بعيـنيَّ الجوابَ فإنني

لا أحسنُ التعبـيرَ حـتى بالبكاء

الأب:

إن كانتِ “الحيطانُ” سيَّجتِ اﻷسى

فعدا يلفُّ عليكَ “مضمارَ الشقاء”

حطِّم نوافذَها وطِر في قريةٍ

الناسُ في يدِها حقولٌ من “إخاء”

وارتع بعينِكَ في أفانينِ الرِّضا

تُسقى بصفوٍ من ينابيعِ النقاء

في حِضنٍ “إنسانيةٍ” مسكونةٍ

بالفجرِ، بالأملِ المدلَّلِ، بالنماء

هيا بنا نُطلق لها أفراحَنا

نغمًا عـلى إيقاعِهِ يحلو الغناء

الطفل:

مهلًا أبي مهلًا، أتحسبُ أنـني

لما صمتُّ جعلتُ قلـبي في غشاء

قلـبي يحدثُني بأنَّ الناسَ في

هذا الزمانِ يرونَ أمثالي عناء

“متوحِّدٌ” تعـني لهم “متجمِّدًا”

هوَ والحجارةُ في مداركِهم سواء

وحياتُهم جارت على أخلاقِهم

فتقازمت لما استطالوا في البناء

في غابةٍ لم يبق فيها منطقٌ

إلا ﻷنيابِ القساةِ اﻷقوياء

الأب:

أبـنيَّ في عينيكَ أُبصرُ هِـمَّةً

مخبوءةً فيها نبوغُ اﻷذكياء

أبـنيَّ أدركتُ الحقيقةَ كلَّها

“أنتَ السويُّ ونحنُ حقًّا أغبياء”

أدركتُ حقًّا أننا من جهلِنا

في غفلةٍ، والداءُ فينا والدواء

وسمعتُ في إيحاءِ روحِكَ همسةً

“إنَّ التوحُّدَ بينَ روحينا غطاء

فلترفعوهُ فلم يزل لبراءَتي

في كلِّ (فكرٍ) نابهٍ منكم رجاء”

1435هـ، أبها

& هذا البيت لوالد الطفل.